فصل: تفسير الآية رقم (6):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (6):

{قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6)}
{قُلْ} لهم ردًا عليهم وتحقيقًا للحق {أَنزَلَهُ الذي يَعْلَمُ السر فِي السموات والأرض} وصفه تعالى بإحاطة علمه بجميع المعلومات الخفية والجلية المعلومة من باب أولى للإيذان بانطواء ما أنزله على أسرار مطوية عن عقول البشر مع ما فيه من التعريض جازاتهم بجناياتهم المحكية التي هي من جملة معلوماته تعالى أي ليس ذلك كما تزعمون بل هو أمر سماوي أنزله الله تعالى الذي لا يعزب عن علمه شيء من الأشياء وأودع فيه فنون الحكم والأسرار على وجه بديع لا تحوم حوله الأفهام حيث أعجزكم قاطبة بفصاحته وبلاغته وأخبركم غيبات مستقبلة وأمور مكنونة لا يهتدي إليها ولا يوقف إلا بتوفيق الله تعالى العليم الخبير عليها، وإذا أرادوا بـ {بكرة وأصيلًا} [الفرقان: 5] خفية عن الناس ازداد موقع السر حسنًا، وأما التذييل بقوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا} فهو للتنبيه على أنهم استوجبوا العذاب على ما هم عليه من الجنايات المحكية لكن أخر عنهم لما أنه سبحانه أزلًا وأبدًا مستمر على المغفرة والرحمة المستتبعتين للتأخير فكأنه قيل إنه جل وعلا متصف بالمغفرة والرحمة على الاستمرار فلذلك لا يعجل عقوبتكم على ما أنتم عليه مع كمال استيجابه إياها وغاية قدرته سبحانه عليها ولولا ذلك لصب عليكم العذاب صبًا، وذكر الطيبي أن فيه على هذا الوجه معنى التعجب كما في قوله تعالى: {لَقَدِ استكبروا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا} [الفرقان: 21].
وجوز أن يكون الكلام كناية عن الاقتدار العظيم على عقوبتهم لأنه لا يوصف بالمغفرة والرحمة إلا القادر على العقوبة، وفي إيثارها تعيير لهم ونعي على فعلهم يعني أنكم فيما أنتم عليه بحيث يتصدى لعذابكم من صفته المغفرة والرحمة وليس بذاك، وقال «صاحب الفرائد»: يمكن أن يقال: ذكر المغفرة والرحمة بعد ذلك لأجل أن يعرفوا أن هذه الذنوب العظيمة المتجاوزة عن الحد مغفورة إن تابوا وأن رحمته واصلة إليهم بعدها وأن لا ييأسوا من رحمته تعالى ما فرط منهم مع إصرارهم على ما هم عليه من المعاداة والمخاصمة الشديدة وهو كما ترى.

.تفسير الآية رقم (7):

{وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7)}
{وَقَالُواْ مَّالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام} إلخ نزلت في جماعة من كفار قريش أخرج ابن أبي إسحق. وابن جرير. وابن المنذر. عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن عتبة. وشيبة ابني ربيعة. وأبا سفيان بن حرب. والنضر بن الحرث. وأبا البحتري. والأسود بن المطلب. وزمعة بن الأسود. والوليد بن المغيرة وأبا جعل بن هشام. وعبد الله بن أبي أمية. وأمية بن خلف. والعاصي بن وائل. ونبيه بن الحجاج. ومنبه بن الحجاج اجتمعوا فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم وكلموه وخاصموه حتى تعذروا منه فبعثوا إليه أن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك فجاءهم عليه الصلاة والسلام فقالوا: يا محمد إنا بعثنا إليك لنعذر منك فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالًا جمعنا لك من أموالنا وإن كنت تطلب الشرف فنحن نسودك وإن كنت تريد ملكًا ملكناك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بي مما تقولون ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم ولكن الله تعالى بعثني إليكم رسولًا وأنزل علي كتابًا وأمرني أن أكون لكم بشيرًا ونذيرًا فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه على أصبر لأمر الله تعالى حتى يحكم الله عز وجل بيني وبينكم» قالوا: يا محمد فإن كنت غير قابل منا شيئًا مما عرضنا عليك فسل لنفسك سل ربك أن يبعث معك ملكًا يصدقك بما تقول ويراجعنا عنك وسله أن يجعل لك جنانًا وقصورًا من ذهب وفضلة تغنيك عما تبتغي فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولًا كما تزعم فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بي مما تقولون ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم ولكن الله تعالى بعثني إليكم رسولًا وأنزل علي كتابًا وأمرني أن أكون لكم بشيرًا ونذيرًا فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه علي أصبر لأمر الله تعالى حتى يحكم الله عز وجل بيني وبينكم» قالوا: يا محمد فإن كنت غير قابل منا شيئًا مما عرضنا عليك فسل لنفسك سل ربك أن يبعث معك ملكًا يصدقك بما تقول ويراجعنا عنك وسله أن يجعل لك جنانًا وقصورًا من ذهب وفضة تغنيك عما تبتغي فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولًا كما تزعم فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«ما أنا بفاعل ما أنا بفاعل بالذي يسأل ربه هذا وما بعثت إلكيم بهذا ولكن الله تعالى بعثني بشيرًا ونذيرًا» فأنزل الله تعالى في قولهم ذلك {وَقَالُواْ مَّالِ هذا الرسول} إلخ.
وقد سيق هنا لحكاية جنايتهم المتعلقة بخصوص المنزل عليه الفرقان بعد حكاية جنايتهم التي تتعلق بالمنزل، وما استفهامية عنى إنكار الوقوع ونفيه في محل رفع على الابتداء والجار والمجرور بعدها متعلق حذوف خبر لها، وقد وقعت اللام مفصولة عن هذا المجرور بها في خط الإمام وهي سنة متبعة، وعنوا بالإشارة والتعبير بالرسول الاستهانة والتهكم، وجملة {يَأْكُلُ الطعام} حال من {الرسول} والعامل فيها ما عمل في الجار من معنى الاستقرار؛ وجوز أن يكون الجار والمجرور أي أي شيء وأي سبب حصل لهذا الزاعم أنه رسول حال كونه يأكل الطعام كما نأكل {وَيَمْشِى فِي الاسواق} لابتغاء الأرزاق كما نفعله على توجيه الإنكار والنفي إلى السبب فقط مع تحقق المسبب الذي هو مضمون الجملة الحالية. ومن الناس من جوز جعل الجملة استئنافية والأول ما ذكرنا، ومرادهم استبعاد الرسالة المنافية لأكل الطعام وطلب المعاش على زعمهم فكأنهم قالوا: إن صح ما يدعيه فما باله لم يخالف حاله حالنا وليس هذا إلا لعمههم وركاكة عقولهم وقصور أبصارهم على المحسوسات فإن تميز الرسل عليهم السلام عماعداهم ليس بأمور جسمانية وإنما هو بأمور نفسانية أعني ما جبلهم الله تعالى عليه من الكمال كما يشير إليه قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يوحى إِلَىَّ أَنَّمَا إلهكم إله وَاحِدٌ} [الكهف: 110] واستدل بالآية على إباحة دخول الأسواق للعلماء وأهل الدين والصلاح خلافًا لمن كرهه لهم.
{لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا}.

.تفسير الآية رقم (8):

{أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8)}
{أَوْ يلقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا} تنزل عما تقدم كأنهم قالوا: إن لم توجد المخالفة بيننا وبينه في الأكل والتعيش فهلا يكون معه من يخالف فيهما يكون ردءًا له في الإنذار فإن لم توجد فهلا يخالفنا في أحدهما وهو طلب المعاش بأن يلقى إليه من السماء كنز يستظهر به ويرتفع احتياجه إلى التعيش بالكلية فإن لم يوجد فلا أقل من رفع الاحتياج في الجملة بإتيان بستان يتعيش بريعه كما للدهاقين والمياسير من الناس. والزمخشري ذكر أنهم عنوا بقولهم {مَا لهذا الرسول يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِى فِي الاسواق} [الفرقان: 7] أنه كان يجب أن يكون ملكًا ثم نزلوا عن ملكيته إلى صحبة ملك له يعينه ثم نزلوا عن ذلك إلى كونه مرفودًا بكنز ثم نزلوا فاقتنعوا بأن يكون له بستان يأكل منه ويرتزق، قيل الجملة الأخيرة فقط تنزل منهم وما قبل استئناف جوابًا عما يقال كيف يخالف حاله صلى الله عليه وسلم حالكم وبأي شيء يحصل ذلك ويتميز عنكم؟ ولا يخفى ما فيه ونصب {يَكُونَ} على جواب التحضيض، وقرئ {فَيَكُونُ} بالرفع حكاه أبو معاذ، وخرج على أن يكون معطوف على {أَنَزلَ} [الفرقان: 7] لأنه لو وقع موقعه المضارع لكان مرفوعًا لأنك تقول ابتداء لولا ينزل بالرفع وقد عطف عليه {يُلْقِى} و{تَكُونُ} وهما مرفوعان أو هو جواب التحضيض على إضمار هو أي فهو يكون، ولا يجوز في مثل هذا التركيب نصب {يُلْقِى} وتكون بالعطف على يكون المنصوب لأنهما في حكم المطلوب بالتحضيض لا في حكم الجواب.
ولعل التعبير أولًا بالماضي مع أن الأصل في لولا التي للتحضيض أو العرض دخولها على المضارع لأن إنزال الملك مع قطع النظر عن أن يكون معه عليه الصلاة والسلام نذيرًا أمر متحقق لم يزل مدعيًا له صلى الله عليه وسلم فما أخرجوا الكلام حسا يدعيه عليه الصلاة والسلام وإن لم يكن مسلمًا عندهم، وفيه نوع تهكم منهم قاتلهم الله تعالى بخلاف الإلقاء وحصول الجنة، ولعل في التعبير بالمضارع فيهما وإن كان هو الأصل إشارة إلى الاستمرار التجددي كأنهم طلبوا شيئًا لا ينفد. وذكر ابن هشام في المغني عن الهروي أنه قال جيء لولا للاستفهام ومثل له ثالين أحدهما قوله تعالى: {لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ}، وتعقب ذلك بأنه معنى لم يذكره أكثر النحويين، والظاهر أنها في المثال المذكور مثلها في قوله تعالى: {لَوْلاَ جَاءو عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء} [النور: 13]، وذكر أنها في ذلك للتوبيخ والتنديم وهي حينئذ تختص بالماضي، ولا يخفى أنه إن عنى بقوله تعالى: {لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ} [الفرقان: 7] ما وقع هنا فأمر كونها فيه للتوبيخ والتنديم في غاية الخفاء فتدبر، وقرأ قتادة والأعمش {أَوْ يَكُونَ} بالياء آخر الحروف، وقرأ زيد بن علي.
وحمزة. والكسائي وابن وثاب. وطلحة. والأعمش {نَّأْكُلَ} بالنون إسنادًا للفعل إلى ضمير الكفر القائلين ماذكر {وَقَالَ الظالمون} هم القائلون الأولون وإنما وضع المظهر موضع ضميرهم تسجيلًا عليهم بالظلم فيما قالوه لكونه إضلالًا خارجًا عن حد الضلال مع ما فيه من نسبته صلى الله عليه وسلم إلى ما يشهد العقل والنقل ببراءته منه أو إلى ما يصلح أن يكون متمسكًا لما يزعمون من نفي الرسالة، وقيل: يحتمل أن يكون المراد، وقال الكاملون في الظلم منهم وأيًا ما كان فالمراد أنهم قالوا للمؤمنين {إِن تَتَّبِعُونَ} أي ما تتبعون {إِلاَّ رَجُلًا مَّسْحُورًا} سحر فغلب على عقله فالمراد بالسحر ما به اختلال العقل، وقيل: أصيب سحره أي رئته فاختل حاله كما يقال مرؤس أي أصيب رأسه، وقيل: يسحر بالطعام وبالشراب أي يغذي أو ذا سحر أي رئة على أن مفعول للنسب وأرادا أنه عليه الصلاة والسلام، بشر مثلهم، وقيل أي ذا سحر بكسر السين وعنوا قاتلهم الله تعالى ساحرًا، والأظهر على ما في البحر التفسير الأول، وذكر هو الأنسب بحالهم.

.تفسير الآية رقم (9):

{انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9)}
{انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الامثال} استعظام للأباطيل التي اجترؤا على التفوه بها وتعجيب منها أي انظر كيف قالوا في حقك الأقاويل العجيبة الخارجة عن العقول الجارية لغرابتها مجرى الأمثال واخترعوا لك تلك الصفات والأحوال الشاذة البعيدة من الوقوع {فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلًا} فبقوا متحيرين ضلالًا لا يجدون في القدح في نبوتك قولًا يستقرون عليه وإن كان باطلًا في نفسه فالفاء الأولى سببية ومتعلق {ضَلُّواْ} غير منيو والفاء الثانية تفسيرية أو فضلوا عن طريق الحق فلا يجدون طريقًا موصولًا إليه فإن من اعتاد استعمال هذه الأباطيل لا يكاد يهتدي إلى استعمال المقدمات الحقة فالفاء في الموضعين سببية ومتعلق {ضَلُّواْ} منوي ولعل الأول أولى، والمراد نفى أن يكون ما أتوا به قادحًا في نبوته صلى الله عليه وسلم ونفى أن يكون عندهم مايصلح للقدح قطعًا على أبلغ وجه فإن القدح فيها إنما يكون في القدح بالمعجزات الدالة عليها وما أتوا به لا يفيد ذلك أصلًا وأنى لهم بما يفيده.

.تفسير الآية رقم (10):

{تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10)}
{تَبَارَكَ الذي إِن شَاء جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مّن ذلك جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار وَيَجْعَل لَّكَ قُصُورًا} أي تكاثر خير الذي إن شاء وهب لك في الدنيا شيئًا خيرًا لك مما اقترحوه وهو أن يجعل لك مثل ما وعدك في الآخرة من الجنات والقصور كذا في الكشاف، وعن مجاهد إن شاء جعل لك جنات في الآخرة وقصورًا في الدنيا ولا يخفى ما فيه، وقيل: المراد إن شاء جعل ذلك في الآخرة، ودخلت {ءانٍ} على فعل المشيئة تنبيهًا على أنه لا ينال ذلك إلا برحمته تعالى وأنه معلق على محض مشيئته سبحانه وليس لأحد من العباد والعباد على الله عز وجل حق لا في الدنيا ولا في الآخرة، والأول أبلغ في تبكيت الكفار والرد عليهم، ولا يرد كما زعم ابن عطية قوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُواْ بالساعة} [الفرقان: 11] كما ستعلمه إن شاء الله تعالى، والظاهر أن الإشارة إلى ما اقترحوه من الكنز والجنة وخيرية ما ذكر من الجنة لما فيه من تعدد الجنة وجريان الأنهار والمساكن الرفيعة في تلك الجنان بأن يكون في كل منها مسكن أو في كل مساكن ومن الكنز لماأنه مطلوب لذاته بالنسبة إليه وهو إنما يطلب لتحصيل مثل ذلك وهو أيضًا أظهر في الأبهة وأملأ لعيون الناس من الكنز، وعدم التعرض لجواب الاقتراح الأول لظهور منافاته للحكمة التشريعية ورا يعلم من كثير من الآيات كذا قيل.
وفي إرشاد العقل السليم أن الإشارة إلى ما اقترحوه من أن يكون له صلى الله عليه وسلم جنة يأكل منها {وجنات} بدل من {خَيْرًا} محقق لخيريته مما قالو لأن ذلك كان مطلقًا عن قيد التعدد وجريان الأنهار، وتعلق ذلك شيئته تعالى للإيذان بأن عدم الجعل لعدم المشيئة المبنية على الحكم والمصالح، وعدم التعرض لجواب الاقتراحين الأولين للتنبيه على خروجهما عن دائرة العقل واستغنائهما عن الجواب لظهور بطلانهما ومنافاتهما للحكمة التشريعية وإنما الذي له وجه في الجملة هو الاقتراح الأخير فإنه غير مناف للحكمة بالكلية فإن بعض الأنبياء عليهم السلام قد أوتوا في الدنيا مع النبوة ملكًا عظيمًا انتهى، وهذ الذي ذكره في الإشارة جعله الإمام الرازي قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وما ذكر أولًا استظهره أبو حيان وحكاه عن مجاهد، وحكى عن ابن عباس أنها إشارة إلى ما عيروا به من أكل الطعام والمشي في الأسواق وقال: إنه بعيد، وحكاه الإمام عن عكرمة وكأني بك تختار ما اختاره صاحب الإرشاد، والظاهر أن {يَجْعَلْ} مجزوم فيكون معطوفًا على محل الجزاء الذي هو جعل وهو جزاء أيضًا وقد جيء به جملة استقبالية على الأصل في الجزاء، فقد ذكر أهل المعاني أن الأصل في جملتي إن الشرطية أن تكونا فعليتين استقباليتين لفظًا كما أنهما مستقبلتان معنى، والعدول عن ذلك في اللفظ لا يكون إلا لنكتة.
وكأن التعبير على هذا بالجملتين الماضويتين لفظًا في {إِن شَاء جَعَلَ} إلخ لزيادة تبكيت الكفار فيما اقترحوا من جنسه، ولما لم يقترحوا ما هو جنس جعل القصور لم يسلك فيه ذلك المسلك فتدبر، وقيل: كان الظاهر نعد التعبير أولًا في الجزاء بالماضي أن يعبر به هنا أيضًا لكنه عدل إلى المضارع لأن جعل القصور في الجنان مستقبل بالنسبة إلى جعل الجنان، ثم أن هذا العطف يقتضي عدم دخول القصور في الخير المبدل منه قوله سبحانه: {جنات} وكان ما تقدم عن الكشاف بيان لحاصل المعنى عونة السياق، وجوز أن يكون مرفوعًا أدغمت لامه في لام {لَكَ} لكن إدغام المثلين إذا تحرك أولهما إنما هو مذهب أبي عمرو، والذي قرأ بالتسكين من السبعة هو وحمزة. والكسائي. ونافع. وفي رواية محبوب عنه أنه قرأ بالرفع بلا إدغام وهي قراءة ابن عامر. وابن كثير. ومجاهد. وحميد. وأبي بكر، والعطف على هذه القراءة واحتمال الإدغام عند ابن عطية على المعنى في {جَعَلَ} لأن جواب الشرط موضع استئناف ألا يرى أن الجملة من المبتدأ والخبر قد تقع موقع جواب الشرط.
وقال الزمخشري: هو معطوف على {جَعَلَ} لأن الشرط إذا كان ماضيًا جاز في جوابه الجزم والرفع كقول زهير في مدح هرم بن سنان.
وإن أتاه ليل يوم مسغبة ** يقول لا غائب مالي ولا حرم

ومذهب سيبويه أن الجواب في مثل ذلك محذوف وأن المضارع المرفوع على نية التقديم، وذهب الكوفيون، والمبرد إلى أنه هو الجواب وأنه على حذف الفاء. والتركيب عند الجمهور فصيح سائغ في النثر كالشعر، وحكى أبو حيان عن بعض أصحابه أنه لا يجوز إلا في الضرورة إذ لم يجيء إلا في الشعر، وتمام الكلام في تحقيق المذاهب في محله، وقال الحوفي. وأبو البقاء: الرفع على الاستئناف قيل وهو استئناف نحوي، والكلام وعد له صلى الله عليه وسلم بجعل تلك القصور في الآخرة ولذا عدل عن الماضي إلى المضارع الدال على الاستقبال، وقيل: هو استئناف بياني كان قائلًا يقول: كيف الحال في الآخرة؟ فقيل: يجعل لك فيها قصورًا، وجعل بعضهم على الاستئناف هذا الجعل في الدنيا أيضًا على معنى إن شاء جعل لك في الدنيا جنات ويجعل لك في تلك الحنات قصورًا إن تحققت الشرطية وهو كما ترى، وقيل: الرفع بالعطف على {تَجْرِى} صفة بتقدير ويجعل فيها أي الجنات، وليس بشيء، وقرأ عبيد الله بن موسى. وطلحة بن سليمان {وَيَجْعَلَ} بالنصب على إضمار أن، ووجه على ما نقل عن السيرافي أن الشرط لما كان غير مجزوم أشبه الاستفهام، وقيل: لما كان غير واقع حال المشارطة أشبه النفي، وقد ذكر النصب بعده سيبويه، وقال إنه ضعيف، وقيل: الفعل مرفوع وفتح لامه اتباعًا للام {لَكَ} نظير ما قيل في قوله:
لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت ** حمامة في غصون ذات أوقال

من أنه فتح راء غير اتباعًا لهمزة أن وهو أحد وجهين في البيت، ونظير الآية في هذه القراآت قول النابغة:
فإن يهلك أبو قابوس يهلك ** ربيع الناس والشهر الحرام

ونأخذ بعده بذناب عيش ** أجب الظهر ليس له سنام

فإنه يروى في نأخذ الجزم والرفع والنصب.